الأربعاء، 14 أبريل 2010

هواجس القراءة الاولى

هواجس القراءة الاولى


في هذه الايام اجد نفسي منكبا على مطالعة عدد من الكتب في آن واحد. فانا اقرأ في كتاب "فن الشعر" لبورخيس كما اقرا في كتاب "الوصايا المغدورة "لميلان كوندير بالاضافة الى كتاب "سباق المسافات الطويلة " لعبد الرحمن منيف وكتاب اخر هو " ظل الغيمة" لحنا ابو حنا .


لماذا هذا الابحار في عباب محيطات الكتب وبحارها ,ولماذا لا اختار كتابا واحدا والقراءه فيه بروية وتمهل كما يفعل الاسوياء اذا كان اصلا هناك اسوياء بكل ما يتعلق بعملية القراءة ؟


هنا بالذات تحضرني كلمات الكاتب الارجنتيني العظيم خورخي لويس بورخيس حول القراءة والنص , طرح بورخيس وهو يعتبر القارىء الاكبر الكثير من الاسئلة كما فعل غيره قبله وبعده من المهتمين بالقراءة حول تلك العملية السحرية للقراءة وعلاقة القارىء بالنص وقد اكبر بورخيس من شأن القارىء حتى انه جعله في مرتبة اعلى من الكاتب فكما يقول بورخيس ان الكتاب كثير لكن القارىء الجيد نادر الوجود .في هذا السياق لا اريد ان اطنب في وصف عملية القراءة وعن علاقة الود او العداء السافر بين القارىء والنص اذ يبدو لي انه لا يدخل النهر شخص مرتين ولا يقرا شخص كتابا مرتين, فعند القراءة الاولى تتحدد علاقتنا مع النص ونتخذ موقفا مرة حاسما وتارة اخرى متخاذلا من السطور الممتدة امام ناظرينا " ماذا مع المؤلف هل ما زال حيا !!


القراءة الاولى لكتاب ما مثلها مثل رعشة الحب الاولى مثل الارض العطشى عند اول المطر, لا استطيع مهما حييت نسيان انصهاري الكلي واللانهائي في الكتاب عند قراءتي الاولى .


لا بل اكثر من ذلك حاولت كثيرا ان اعيد قراءة كتاب ما فلم انجح قط.. يبهرني الكاتب بعوالمه واهوائه مهما كانت غرائبية او جنونية . عند اول لقاء اتماهى تماما مع ابطال الكاتب اوافقه واعارضه واقارعه في ما يقول اشعر بفرح جنوني استدعي ابطال الاساطير كلها اهيم وجدا باطياف الكتاب السحرية اتماهى معه وافقد خصوصيتي وثقافتي وهويتي .. واستعير هوية وروحا جديد من كاتب النص .. لكن ان يعود هذا الوجد الاخاذ بالكتاب بعد قراءته الأولى فهيهات هيهات....


الان وعلى وقع كلماتي السابقة والصاخبة الى حد ما اعود بذاكرتي لسنوات خلت عندما قرأت اجمل روايات الكاتب الكولومبي الشهير غابرئيل غارسيا ماركيز افضل من كتب رواية في التاريخ الانساني قاطبة واسم الرواية "مئة سنة من العزلة" ذلك الكتاب الساحر لصاحب المدرسة الواقعية السحرية في ادب امريكا اللاتنية الذي استطاع ان يبهر العالم بهوياته واطياف ثقافاته الملونة والمختلفة تحت لواء الرواية وردائها الملون الجميل بشخصياتها الاسطورية التي تنفلت من ربقة الزمن وتعيش في حيز اسطوري وسحري يختصر المسافات ويعلن انتصار الانسان ببساطته وبلفافات تبغه ومرحه الطفولي, بحكايات العشق ومغامرات الانسان الحالم بعالم اخر متحرر من الالات العصرية المقيتة ودقات الساعة الرتيبة, عالم بهيج يضج بصياح ديكة بلدة مكاندو الاسطورية عند الفجر واصوات البهائم عندما يحلبها القرويون قبل ان يستيقظ الجميع" واغاني الرعاة واصوات الصبية المتناهية من اخر البلدة, واستعراضات الحركات اليسارية في ادغال امريكا اللاتنية, انها عوالم ماركيز الخلابة والمحرضة على الفرح .


ماركيز الذي عمم بساطة ثقافة موطنه بما تحويه من قصص وارواح شريرة تطوف شوارع البلدة بعد مغيب الشمس بقليل, هذه العوالم والحكايات الجميلة وعروض السيرك وقوافل الغجر التي تعرض بضاعتها في شوارع البلدة وتقترح قراءة الكف على المارة من العاشقين الباحثين عن ملاذ لوجدهم .


هذ الاجواء المحلقة والبديعة الساحرة لا تنفك عن ملاحقتي وتملك حيزا من ذاكرتي لهذا ازمعت على معاودة قراءة رواية ماركيز من جديد لكنني لم انجح في عبور الصفحة الخامسة من الرواية رغم تاثري البالغ بها وهي اعظم ما قرأت من روايات, وعلاقتي مع القراءة تفوق العشرين عاما ونيف. ان عجزي عن قراءة هذه الرواية الرائعة مرة ثانية نابع من عمق التجربة الاولى ونضجها, القراءة الاولى التي حتما تطغى على كل قراءة اخرى لا بل تتفرد كليا بذهن القارىء وتحدد علاقته بالاشياء عامة وبعوالم الرواية ذاتها خاصة .


اعود الى سؤالي الاول لماذا اقرأ كثيرا في هذه الايام؟ لا اعرف اجابة واضحة او محددة, ربما لشعوري المتعاظم يوما بعد يوم من تقصيري في المطالعة اقول لنفسي عندما اخلو بها عندما يتهادى القمر في مشيته من عل, القمر ذلك الرب الرخامي المعلق كما اخبرني نزار ذات مساء صيفي جميل عندما جلسنا مع دواوين الشعر على سقف احد بيوت القرية التي تجاور القمر, اقول لنفسي: علي ان اصل الليل بالنهار حتى ااسدد ديني للمطالعة, علي مجاهدة نفسي وسرقة اللحظات كما تسرق النار المقدسة حتي اقرا المزيد واغوص في اكبرمحيط من الكتب لعلي اسدد شيئا من ديني لكتاب عظماء ما زالوا ينتظرون اجتماعي الاول بهم ويرغبون في حوار دافىء معي , علنا نجلس معا حول الموقد في الشتاء البارد نشرب الشاي وندخن لفائف التبغ التي يتقن صنعها القرويون ,نغني للمطر ونتبادل النكات ونتذكر من مات من اطفال المخيم قبل ايام.


لكن ثمة سر دفين لماذا اقرأ اصلا ؟ ولماذا يقرأ الناس؟ هذا سؤال اخر يلح علي كثيرا لكني الان محاصر بالكتب المكدسة, كدت اقول المقدسة ساهيم فيها على وجهي سافتحها فتحا مبينا وساقراها حتى اخر حرف وبعدها ساتصدى لهذا السؤال المباغت .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق