الأربعاء، 14 أبريل 2010

كتاب هارب





يعتريني الامل من جديد عندما ارى طفلا يقرا ويتامل الصور الملونة في قصة صغيرة الحجم وقليلة الصفحات , تكبر في الطفولة وتدغدغني الاحلام الجريئة والمتفتحة وردا جوريا معطرا بدم الغزلان البرية الطليقة في غابات الابداع ومعابد الحرية وجمال الروح الانسانية المتالقة في سماء ابدية الفن وخلوده ,انه الامل فحسب ولكن هيهات هيهات وعبثا تجدي التمنيات وتثمر الصلوات ,ما لي ارى ابنا ء قومي وقد قست قلوبهم واشتدت سواعدهم على الكتب وحامليها . اما مناسبة هذه الكلمات التي تطفو على سطح بحيرة النفس الثائرة والناقمة على حال الكتب وندرة روادها وانصارها في بلاد عدنان وقحطان فهي قصة دارت في زمان وفي مكان ما من خريطة الذاكرة, وفي هذا المقام ساوردها لكم بتمامها وكمالها : اذ اخبرني احدهم وما اكثرهم وقد عض بالنواجذ على طرف ثوبه الناصع البياض وخرج من البلدة خائفا يترقب قومه المتربصين به والناقمين عليه , قال: كنت اجلس في حديقة داري اقرا في كتاب الجفر وقد اعتوتق وذبلت ملامحه واصفرت صفحاته البالية واكل عليه الدهرالمناسف وشرب عليه الكوكاكولا الخالية من جنس السعرات الحرارية !! وقال : فاذا بجمع من الناس وقد اقتحموا علي المكان متوعدين شاتمين بالحجارة ممسكين, وعلى السيوف قابضين والشرر من عيونهم يطير, والشر يقدح منها ويستطير, فقفزت من مكاني مذعورا كمن لسعته عقرب صفراء تخندقت في بواقي القش المتراكم في بيدر الصيف الجائر بحرارته وثرثراته المملة ولياليه الطويلة , وتطايرت في الهواء وقد طار الكتاب هو الاخر من بين يدي وعانق السماء فقلت لهم وقد اشعلو نارا وبداوا يرقصون من حولها على مذبح الكتاب وصاحبه : ماذا دهاكم يا قومي وبني عشيرتي فاجاب كبير ربعهم وقد تمنطق بكرش كبير وفوقه يرقص خنجر مسموم , قال وهو متحفز للانقضاض علي وتمزيقي اربا اربا ورميي للكلاب المسعورة, والتي بدات تنبح حزنا على غياب ضوء القمر: اجننت يا هذا , ثم قال وقد كشر عن انيابه ولوى عنقه الى الامام وصرخ بعنفوان ورفع الصولجان في الهواء وقد سمعت من حوله قرقعة سلاح وضحكات وهمهمات اطلقتها الرياح وما جاورها من اشباح :اراك تمسك كتابا عتيقا ممزق الاوصال, وتقرا فيه مبحرا في عبابه موغلا في اثمك, غير مراع لمشاعر الرعية وحرمة الارض الطاهرة من رجس الشيطان , لا بل تفعلها جهارا نهارا وعلى رؤوس الاشهاد, الم يبلغك حظرنا على استعمال كل انواع الكتب واصنافها ومنع تدوالها واشهارها علانية, وعلى شرائها وبيعها وتصديرها ومقايضتها بالقهوة والشاي والاراجيل المزروعة في كل الامصار والثغور, واقفاص الدجاج المتناثرة على طول الشوارع الرئيسية, في بلداتنا العربية بدلا عن المكتبات والمسارح وتلك الامسيات وغيرها من المنكرات , الا تعلم يا هذا ان الكتب مفسدة عظيمة للناس ,تفسد عقولهم وتذهبها مع الريح ,وتاخذ بالبابهم, وتخرب بيوتهم ولا تعمرها لا بل تهدمها على رؤوس اصحابها بواسطة الجرافات والافكار الجديدة و تحشوها بالفساد وغراب البين, وان امثالك من المثقفين المارقين يهددون سلامة مواطيننا المسالمين الكافين الناس خيرهم شرهم وحافظي ماءهم في سمائهم الى يوم يبعثون, . نظرت في عيني صاحبنا صاحب الكتاب المعلوم والذي طار (الكتاب) مع الريح من شدة رعب صاحبنا وقفزته المشهورة في فناء الحديقة ,عندما هجم عليه افراد العسس والبصاصين كالكلاب المسعورين وقد اسقط في يدي ,غير مصدق ما تسمع اذناي ولا ترى عيناي والتي سياكلهما الدود في مقبرة البلدة الغير مسيجة والمعرضة لعبث العابثين وغنم السارحين وعربدة السكرانين وهمهمات العاشقين الولهانين عند الاصيل وقبل غياب الشمس بقليل. تابعت تلك النظرة البلهاء في عيني صاحبنا التي اغرورقت بدمع مهين ,وقد انعكست دمعة تائهة على سطح القمر الذي اطل من وراء الافق الشرقي بخجل واضفى سحره الفضي المعلق على البلدة . وجللها بالسكون,واكراما لتلك الدمعة السخية والتي انسابت رقراقة تمشي الهوينى على خد صاحبنا وقد عشقها القمر , اسفت وجزعت لتشكيكي في كلامه ونسيت او تناسيت انني اعده من الصادقين , فعاد الى رشده وتمالك عقله وقبض عل زمام الحديث من جديد وتابع قص شريط سيرته عن ذاك المتمنطق بالكرش المستدير, قال صاحبنا واسترسل في السرد : ان ذلك الزعيم ختم كلامه بزيادة في عيار التهديد والوعيد له اذا ما عاد الى فعله المشين من حمل للكتب وتعريض امخاخ العامة لخطر التخريب وتسميم افكارهم بالحبر المراق دمه على الصفحات البيض, واذا فعل ويعلم الله انه سيفعل فسيعلق راسه على اسوار المدينة وسيضرب عنقه في ساحة الشهداء وعلى رؤوس الاشهاد وسيكون هذا مصير كل معتد اثيم على عقول الناس المصانة والمكرمة والمعززة بعيدا عن الكتب ووسوساتها والاقلام وخربشاتها, فقام صاحبنا ولم يتمالك نفسه وطار عقله من راسه وهو يكفكف دمعه ويدفن راسه بين كتبه المكومة في غرفة مزدحمة بالكتب الممزقة والعتيقة وقد احكم اغلاق باب داره خوفا من الزعيم المعربد والمزمجر الذي غادر المكان بعد ان سيطر على الزمان مسنودا على ازناد رجاله العتاة الذين يضمرون العداء للكتب واصحابها وقد وزع صاحب الكرش المشهور منشورا يبشر فيه ابناء البلدة بنيته قطع دابر الكتب من الازقة والحارات ونصب المشانق لحاملي الكتب ومتداوليها وتعليق رؤوسهم المشرئبة الى عل في الساحات العامة وتقطيع اوصالهم والتمثيل بجثثهم.


هكذ وبسماع الخبر خبا الاطفال قصصهم الجميلة في اثواب امهاتهم الفضفاضة الزاهية الطويلة ,ودفن بعض القراء كتبهم في كهف قديم تسكنه الجن والعفاريت, واحرق اخرون ما تبقى لهم (لم يتبق لنا شيء يا غسان كنفاني) من كتب واوراق ومعاجم ونصوص فلسفية كتبها العجم والعرب, ولكن ثمة فرقة ناجية ! اذ فرت قلة قليلة من اصحاب الكتب من بعض الاحياء االمظلمة والمحاصرة بافراد ميليشيات الزعيم , وهم يعضون على اطراف ثيابهم التي تحمي الكتب من رجال الزعيم صاحب الكرش العظيم المتربصين بالكتب وحامليها, وكان صاحبنا احد الفارين الناجين والذي عبر الحدود الى احدى البلدات المجاورة والتي يحمل فيها الناس الكتب سرا وعلانية وعلى قارعة الطريق وفي الحافلات والقطارات وعلى ظهور البغال والحمير, ويقراون بحرية ودونما مضايقة من العسس والبصاصين وعيون المحتسب في تلك البلدة الامنة المطمئنة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق