الجمعة، 11 فبراير 2011

شاهد على العصر


مساء 11.2.2011 اجلس مسمرا مشدوها أمام شاشة الجزيرة الغالية على قلبي (وعلى قلب كل عربي حر في كل مكان وزمان) أراقب الأحداث المتسارعة وانتظر بيانا رئاسيا أخيرا حول السقوط المريع لأحد رموز دولة العجائز المتهاوية ذلك الطاغية, جاء البيان ساحقا, تاريخيا, ودراميا في آن.الطاغية يضع  ذيله بين رجليه ويفر من المكان. أثناء انتظار البيان كنت القي نظرة على قناة التلفزيون المصري, كانت المذيعة حائرة, وقد أوشك المحتجون على احتلال مبنى التلفزيون وعمال مبارك (الهارب) في التلفزيون في حيص بيص من أمرهم, كانت الأنباء متضاربة عن سفر الرئيس السابق وتنحيه عن الرئاسة, لاحظت تخبط المذيعين وهم اخلص المخلصين للنظام القديم. بعد ذلك كنت انتقل إلى محطة أخبار النيل والتي كانت قبل أيام قليلة تهلل وتسبح بحمد الرئيس, فجأة رأيت أمرا عجبا, مراسل تلك المحطة يقف بين المتظاهرين أمام التلفزيون المصري ويجري المقابلات المباشرة مع المتظاهرين الذي يطالبون برحيل الرئيس. كان المراسل يرتجف من الخوف ويسترضي الناس, وكأنه اشتم المرحلة التاريخية وشعر بنهاية عهد بائد ونهاية عهد الأعلام الفاسد في خدمة الزعيم وأعطى ذلك المراسل المصريين التعبير بحرية عن آلامهم ونقدهم وسخطهم على النظام ومؤسسة إعلامه الهزيلة. حزنت وفرحت ضحكت وبكيت وأطلقت العنان لدموع سخية وان اشعر بقرب المرحلة التاريخية, في تلك المقابلات مع قناة النيل وضحكت وبكيت عندما سمعت احد المواطنين المصريين البسطاء يقول "عاوزين فلوسنا من مبارك"! انه شعب تعرض للذل والهوان على مدار عشرات السنين من طغمة فاسدة, مرحى لأهل مصر مرحى هذه الصفحة الناصعة البياض, ثورة عربية خالصة نقية طاهرة بيضاء طهر الدماء الزكية التي سالت على ارض المحروسة ومهدت الطريق لثورة البسطاء الحالمين برغيف عيش بكرامة وبدون لكمات وركلات رجال بوليس مبارك.
عندما أعلن عمر سليمان ذلك البائس الآخر عن نهاية ولي نعمته وهربه من غضب الجماهير الثائرة طرت فرحا وشعرت أنني محظوظ وأنا اشهد انتصارا عربيا بمذاق خاص.
لو سألني احدهم قبل شهر من الزمان عن مصر وأهلها لقلت جازما أن هذه الأمة ماتت وتوارت وراء رمال الصحراء منذ زمن  ولن تقوم لها قائمة ولكنني كغيري لم احسب حسابا للتغييرات الكبيرة في بنية المجتمعات العربية, لم أفكر للحظة أن شبكة التواصل الاجتماعي ستفعل فعلها وتنتصر على اعتي أجهزة القمع في العالم فمرحى لوائل غنيم ورفاقه, أصدقائي, لقد غيرتم وجه التاريخ.
من الآن اشعر كعربي إنني استعدت إنسانيتي وكرامتي المهدورة التي فقدتها الذاكرة الجمعية العربية والإسلامية منذ انفصام عرى الدولة العثمانية والتي شعر العرب إثناء أيام عزها أنهم جزء من دولة إسلامية واحدة.
الآن سأضع أصابعي في عيون عتاة المستشرقين وإتباعهم الذي يتشدقون بان العربي ثورته كثورة الجمل (برنارد لويس) والذين يدعون أن الإنسان العربي غير مهيأ للديمقراطية (ما أروع التعبير عن الحرية في ميدان التحرير) إن احتجاجات شباب مصرية الحضارية دحضت المقولات التافهة بان الإنسان العربي خارج التاريخ.
لو تنبأ احد بمثل هذه الثورة قبل أيام قليلة لاتهمه الليبراليون الجدد بالجنون. لقد شهدت المحروسة ثورة شعبية شاملة اعتمدت على الطلاب الجامعيين, البسطاء, العمال الذين افترشوا الميدان حالمين بمستقبل أفضل, بخبز أكثر وخوف اقل وشيء من الكرامة, كنت أرى في عيون أولئك العزم والتصميم, لقد صغرت الدنيا في عيونهم, لن يخسروا شيئا فلن يكون أسوأ مما كان, حتى الموت عند هؤلاء لن يغير في الأمر شيئا, إذا كان بديلا عن امتهان كرامة الإنسان هكذا تتحرر الشعوب وإلا فلا.
إنها البداية فقط, من هنا نبدأ.
 في الأيام الأخيرة كنت كثيرا ما أقف مشدوها أمام شاشة الجزيرة أأنا في حلم أم في علم لا يهم فليستمر هذا الحلم رغم تحققه, انه حلم عربي جميل غير وجه التاريخ, انه تاريخ البسطاء والمهمشين والمستضعفين على الأرض في المجتمع العربي, انه تاريخ النساء اللواتي قدمن من كافة أنحاء الأقاليم ووقفن في مقدمة الصفوف (أيضا هنا أقف شامتا من المستشرقين الذي سألوا في بداية الثورة أين النساء...). ستزدهر حتما دراسات التاريخ الاجتماعي حول مصر وثورتها وماذا بعد... تونس و "بن علي هرب" ومبارك "مشى وراح" لقد انفتحت شهية المواطن العربي انكسر القيد يا ابن تونس الخضرا وعاد الأمل وابتسم على شفاه الجائعين والمقموعين. يحضرني الآن الروائي الراحل عبد الرحمن منيف حول القمع العربي, ليتك تعيش بين ظهرانينا الآن لترى ثمار ما كتبت في رواياتك مع كتاب جيل الستينات (صنع الله إبراهيم, محمد البساطي, إبراهيم أصلان وغيرهم مما أرخوا لسنوات القمع والظلم ونادوا بفجر جديد أنني أرى تباشير الفجر الجديد على شرفات الجزيرة..